الدكتور بنطلحة: وهم القوة في خطاب النظام الجزائري.. صراع المصالح وتضخم الذات
قارب الدكتور محمد بنطلحة الدكالي، أستاذ علم السياسة والسياسات العمومية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة القاضي عياض بمراكش، إشكالية توظيف الجزائر للقوة كأداة للهيمنة الإقليمية والدولية في ظل ازدياد التوتر مع فرنسا وتصاعد خطابات الردع بين الطرفين.
وحاول بنطلحة الدكالي، في مقال معنون بـ”الجزائر في مواجهة قانون القوة”، رصد كيف يستند النظام العسكري الجزائري إلى الدعاية الشعبوية، وتضخيم الأوهام الجيوسياسية بدل الانخراط في مقاربات واقعية ومسؤولة.
واستنكر النهج القائم على “الجيوسياسة الميتافيزيقية”، التي تمجد الذات وتتوهم العظمة، معتبرا أن هذه السياسة وصفة للهلاك، ودعا إلى قراءة رشيدة للواقع الدولي تقوم على التغيير والانفتاح بدل العناد والتصلب.
نص المقال:
تعرف القوة في العلاقات الدولية بأنها المجموع الكلي لقدرات الدولة، التي يمكن استخدامها لتعزيز مصالحها وتحقيق أهدافها الوطنية.
والقوة بأشكالها المتنوعة تحدد دينامية التفاعلات بين الدول، وتظهر استراتيجياتها المستقبلية، وهي بالطبع تشمل أبعادا مختلفة، سواء على الصعيد الاقتصادي أو السياسي أو الدبلوماسي، وأبرزها القوة العسكرية للدفاع عن الأمن القومي والمصالح الحيوية عندما تعجز الحلول السلمية، وهذا ما تذهب إليه المدرسة الواقعية.
من أبرز منظري هذا الاتجاه هانز مورغنتاو، الذي يرى أن الركيزة الأساسية هي مفهوم القوة أو المصلحة المحددة على أساس القوة، خاصة حين يؤكد أن المبادئ الأخلاقية لا يمكن تطبيقها على تصرفات الدول بصياغتها العالمية المجردة.
ويخلص مورغنتاو إلى أن القوة يمكنها أن تؤدي دورا تحذيريا من أجل اتخاذ قرارات سياسية حكيمة، خاصة تجاه من يدعي القوة، وأنه خارج منطق الخطأ والصواب.
إن هذا ما يميز الأنظمة السلطوية، التي تعمد إلى التضليل الإعلامي وقلب الحقائق، حيث يأخذ هذا النوع الجديد من الدعاية الشعبوية أشكالا مختلفة تمثل استمرارا للسياسة، لكن بوسائل أخرى، كما قال كلاوزفيتز.
أصل هذا الكلام التعنت واللامبالاة في المسرح الدولي، ونشر بذور الإرهاب الذي يقوم به النظام العسكري الجزائري في دول الجوار، وكذا في الدول الكبرى.
في هذا السياق صعّد وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، لهجته ضد الجزائر، في تصريحات إعلامية أدلى بها لإذاعة “RTL” الفرنسية، حيث هدد باستخدام أدوات ضغط إضافية ضد الجزائر إذا استمرت في رفض استعادة رعاياها المرحلين من فرنسا.
وفي تطور نوعي على مستوى الخطاب الرسمي، شدد برونو روتايو على ضرورة “اعتماد ميزان قوى في التعامل مع الجزائر”، مبرزا أن العالم اليوم لا يعترف بـ”لغة النعومة”، بل بـ”لغة القوة”.
تأتي هذه التصريحات في الوقت الذي تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية تدهورا خطيرا، مما ينذر بأسوأ الاحتمالات..!
في الطرف الآخر، حمل النظام العسكري الجزائري المسؤولية الكاملة للأزمة الحالية لوزير الداخلية الفرنسي، متهما إياه في بيان رسمي لوزارة النظام العسكري الجزائري بانتهاج “سلوك مخز” في حق بلاد الشهداء.
في هذا السياق، قال روتايو: “أنا أتصدر عناوين وسائل الإعلام الجزائرية الموالية للنظام، نعم أنا مستهدف”، مشيرا إلى أنه يؤمن “بضرورة فرض ميزان قوى في التعامل مع الجزائر”، وأضاف بلهجة حادة “في العالم الذي نعيش فيه اليوم لم يعد مجديا الحديث بلغة المهادنين، بل بلغة القوة والردع”.
لمواجهة التوترات التي تعيشها بلاد الشهداء، شن إعلامها حربا إعلامية من أجل بث الإشاعات والمعلومات الخاطئة للتأثير في نفسية الشعب الجزائري المغلوب على أمره وبيع الوهم له وسلب الإرادة منه، حيث إن النظام العسكري الجزائري يحاول أن يسوق الوهم والأكاذيب، خاصة أن حكامه ألفوا التوظيف السياسوي للأساطير وتعمد صناعتها من أجل تحقيق أهداف إيديولوجية معينة، حيث تعرف بلاد الشهداء شخصنة للقرار العام واحتواء للنخب التي تحولت فيها مختلف السياسات والقرارات العامة إلى مجرد قرارات سياسوية تتحكم فيها أهداف توسعية، زادت من حدتها التطلعات الاستراتيجية نحو “الزعامة”، مع العلم أن “الجيوسياسة الميتافيزيقية” هي التي ترتكز على الأوهام وإذكاء النعرات وتضخيم الأنا وتمجيد الذات (الجزائر وما أدراك ما الجزائر..).
إن الواقع الدولي يتطلب استشرافا للمستقبل وتجديدا للأشخاص والمقولات والأفكار التي تبحث عن زعامة وهمية زائفة، واستيعاب هذه اللحظة التاريخية، والاستجابة لنبض الواقع الدولي.. لكن على العكس تطالعنا جريدة “أوراس” الجزائرية بمقال يحمل عنوانا مثيرا: “فيديوهات نارية.. الجيش الجزائري يتحرك ويبعث رسائل مشفرة لخصومه”. وقد تطرق المقال إلى تكثيف وزارة الدفاع الوطني الجزائرية خلال الأيام الأخيرة سلسلة من مقاطع الفيديو التي توثق لمناورات ميدانية ضخمة للجيش الوطني الشعبي، في خطوة اعتبرها مراقبون بمثابة رسائل مشفرة موجهة إلى الأطراف المتربصة بأمن الجزائر واستقرارها.
لقد علمنا تاريخ الفكر السياسي أن أي دولة تتوهم الجبروت لا محالة زائلة، وأن الدول التي تتخذ من الجيوسياسة الميتافيزيقية، كما نظر لها فيخته وشليغل، جوهر الحكم.. يكون طريقها إلى الهلاك.