الدكتور بنطلحة يكتب : منطق الخطاب السياسي
تشكل اللغة أساس العملية التواصلية بين البشر، حيث أننا نستخدمها إما للتخاطب بصورة تلقائية، أو بصورة أكثر دقة من خلال الخطاب الذي يصمم مسبقا بهدف التأثير والإقناع ودفع المتلقي إلى تعديل وجهة نظره.
وهكذا، تشكل اللغة أساس العملية التواصلية بين البشر، حيث أننا نستخدمها إما للتخاطب بصورة تلقائية بهدف إيصال معنى محدد وواضح لتحقيق غاية التواصل الفعال والمنتج، أو بصورة أكثر دقة من خلال الخطاب الذي يصمم مسبقا بهدف التأثير والإقناع ودفع المتلقي إلى تعديل وجهة نظره بناء على ما يخبره المتحدث والطريقة التي يخبره بها اعتمادا على ما يسمى تقنيات الخطاب.
لقد عرف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو الخطاب بكونه “منظومة فكرية تكونها مجموعة آراء ومواقف واتجاهات عمل ومعتقدات وممارسات، تبني أو تنظم منهجيا الموضوعات والشؤون الحياتية”.
ويعد الخطاب السياسي شكلا من أشكال الخطاب العام، حيث يقوم الخاطب من خلاله بتثبيت تملكه السلطة في الصراع السياسي ضد الأفراد أو الأحزاب، ويكون مرتبطا بشكل دائم بالسلطة الحاكمة في المجتمع، ويعد من أهم الوسائل التي تستخدمها القوى السياسية في بلد معين، وذلك بهدف الحصول على مركز معين أو أخذ تفويض ومشروعية، وهو يستخدم من قبل فرد أو جماعة أو حزب سياسي معين.
ويقوم الخطاب السياسي على عملية الإقناع للجهة الموجه لها، سعيا إلى تلقي القبول والاقتناع بمصداقيته، من خلال العديد من الوسائل والطرق المدعمة بالحجج والبراهين. لذا وجب أن يوظف الخطاب السياسي الوسائل اللغوية والمنطقية الصحيحة، وأساليب تتناسب مع طريقة التواصل مع الأفراد، مع ضرورة مراعاة الموقف أو المقام الذي يتم فيه إلقاء الخطاب السياسي، عوض إطلاق الكلام على عواهنه في تصريحات غير مدروسة.
كما أنه يتميز بالمرونة والتكيف حسب المكان الصادر عنه وتغليب الخبرية على الجمل الإنشائية، واستخدام النسبية في الحكم على القضايا والأمور الواقعة، وتتصف بنيته بالتماسك والترابط.
ويحقق الخطاب السياسي عدة وظائف وفق استراتيجية تقوم على إدارة أنماط التفكير الإنساني من بينها الدفاع عن البرامج السياسية المتبعة في البلاد والاختيارات السياسية الناتجة عنها أو تفنيدها وطرح تصورات بديلة لها، وبعث التفاؤل والثقة بالمستقبل في نفوس المخاطبين.وتجدر الإشارة أنه قد تفاعلت كثير من العلوم لتطوير التحليل النقدي للخطاب السياسي،ومن أهمها علوم اللغة والاجتماع وعلم النفس والسياسة،حيث تزايد الاهتمام بالخطاب السياسي وتأثيره على مستقبل الدول،حيث أن التحليل النقدي للخطاب السياسي يستهدف اكتشاف المعاني الظاهرة والخفية في الرسائل وتأثيرها على الجمهور وكيف يستخدم السياسيون اللغة لتحقيق أهدافهم،ومن أهم أهداف التحليل النقدي للخطاب السياسي،اكتشاف الملامح الإيديولوجية الخفية وعلاقات القوة عن طريق تحليل كل من الكلمات وتركيب النص لأن كلمات الخطاب السياسي يتم اختيارها بشكل محدد للتعبير عن المعاني التي يريد الساسة أن يفهمها الجمهور.
في مقابل هذا الشق التنظيري، حري بنا أن نتعرف على واقعية الخطاب السياسي كما تحدث عنها أوريل منذ عام 1949 في مقاله “Politics and the English language” عن الأسلوب الفضفاض واللغة الركيكة المشحونة بالمصطلحات والتعابير المجازية المستخدمة في اللغة السياسية، بالإضافة إلى استخدام أسلوب المقاطع المطولة التي تفتقر إلى المعنى بصورة كاملة.
في السياق ذاته، يطلق على الخطاب النمطي الذي يكتنفه الغموض، وصف “اللغة الخشبية”. وقد حددت الباحثة الفرنسية فرانسوا توم أربع صفات مميزة لها، التجريد والغموض، وتجنب الوقائع، والتكرار والحشو والتعابير والمجازات الرديئة، والميل إلى تقسيم العالم إلى خير وشر.
لقد استخدمت العبارة الفرنسية Langue de bois على نطاق واسع خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وارتبطت بقوة بالسياسيين، خصوصا خريجي النخبة “المدرسة الوطنية للإدارة” من كبار المسؤولين الفرنسيين.
ويذكر “أوريل” أساليب لغوية عدة يتبعها المتحدثون بدء من تغليف الآراء المنحازة بطابع علمي، أو استخدام المبالغات والأوصاف الملفتة لتعظيم نهج متبع.
ورجل السياسة في حديثه أو أثناء حواراته،يجب أن يتحلى بواجب التحفظ،وهو مبدأ يشمل كل الذين يتقلدون مسؤوليات حساسة في صلب أجهزة الدولة،حيث أن المسؤول السياسي يجب أن يتمتع بالرصانة والحصافة وأن يكون خطابه متسما بالحذر السياسي،إنه كما أشار إلى ذلك المنجد في اللغة والإعلام” التحرز والصيانة” أو كما يفيد أيضا حسب معجم المعاني” الاحتراز والاحتياط”،أما اصطلاحا فيفيد كما أشار إلى ذلك الفقيه” ريني شابيس”، واجب الاعتدال في التعبير العلني عن الآراء الشخصية وكذا السياسية،أما إذا اقترن الواجب بالتحفظ فالنتيجة هي الالتزام والاحتياط والاتزان في إطلاق القول والفعل صونا لهيبة الدولة وحماية لأمنها وسيادتها.
إن منطق السياسة هو منطق برهان، وليس منطق سلطان، ويجب على رجل السياسة ألا يكون متوسلا لغايته بأي طريقة، لا يعيبه إخلاف الوعد أو فلتة لسان، ولا يضيره الاعتزاز والتباهي بالقليل من الأعمال والكثير من الأقوال، ويبقى منطق الخطاب السياسي، منطوقا أو مكتوبا، موضوعه الواقع السياسي القائم، محاولا تغييره أو إصلاحه، انطلاقا من تحليله، بل يمكنه أن يقفز عليه ليطرح بديلا عنه، وتلك هي جرأة الخطاب السياسي…