الدكتور بنطلحة يستعرض سياقات “سوء الفهم الكبير” بين المغرب وجنوب إفريقيا
د. محمد بنطلحة الدكالي – مدير المركز الوطني للدراسات والابحاث حول الصحراء
العلاقات بين المملكة المغربية ودولة جنوب إفريقيا ترجع إلى بداية ستينيات القرن الماضي، حين زار الزعيم الجنوب إفريقي “نيلسون مانديلا” المغرب سنة 1962 طلبا للدعم المالي والسلاح، وهو ما استجابت له الرباط آنذاك.
وفي سنة 1990 زار “مانديلا” المغرب تعبيرا عن شكره على ذلك الدعم، فتقررت بعد ذلك إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين. لكن منذ عام 2002 شهدت العلاقة بين القطرين برودا لافتا، إذ قررت دولة جنوب إفريقيا الاصطفاف إلى جانب الجزائر، وهو ما يطرح عدة تساؤلات حول خلفيات هذا الموقف الجنوب إفريقي.
في البداية يجب أن نسجل أن ثمة سوء فهم كبيرا من طرف صانعي القرار الجنوب إفريقي، إذ يحملون العديد من الأفكار المسبقة ويجهلون تاريخ المغرب وتركيبته الاجتماعية والسياسية، لاسيما أنهم عانوا تاريخيا من الصراع ضد نظام “الأبارتايد” الذي ساد جنوب إفريقيا طويلا، وبالتالي ساد خطاب ينتصر للمظلومية، ساهم في إذكائه الإعلام الجنوب إفريقي وكثير من جمعيات المجتمع المدني والحقوقي، وأموال البترول الجزائري التي أنفقت دون حدود؛ فضلا عن الامتيازات الاقتصادية التي استفاد منها الطرف الجنوب إفريقي من طرف جنرالات الجزائر، ما أدى إلى اتخاذ حكومة المؤتمر الوطني الإفريقي سنة 2004 قرارا يؤدي إلى الاعتراف بجمهورية الوهم المزعومة.
إن هذا يستدعي مواكبة التطورات وفق جدول زمني لا تخطئ ساعته مواعيدها، وانخراط الدبلوماسية الموازية، والمراكز البحثية، لأننا في حاجة إلى التعرف أكثر على منظومة التفكير وطبيعة صناعة القرار في جنوب إفريقيا، مع ضرورة استحضار التمثلات الحاضرة عند هذا المجتمع بقوة ومحاولة سبر أغوارها، كونه يستقوي بالمكانة الرمزية لشخصية “نيلسون مانديلا”، وكونه الأمة التي ناضلت ضد الميز العنصري. دراسة هذه التمثلات نعتبرها بمثابة جواز سفر تواصلي للتعرف على كينونة المجتمع الجنوب إفريقي.
ويجب أن نستحضر كذلك أن دولة جنوب إفريقيا تعاني هي الأخرى من حركة انفصالية.
محافظة كيب الغربية التي تبلغ مساحتها حوالي 130 ألف كيلومتر مربع، ويقدر عدد سكانها بـ6,5 ملايين نسمة، كما تحتضن مدينة كيب تاون، ثالث أكبر مدن جنوب إفريقيا، يتطلع شعبها إلى الاستقلال، لذلك انبرى فيها «حزب كيب» إلى المناداة بالانفصال عن دولة جنوب إفريقيا وسط دعم شعبي يتزايد مع الأيام.
ويرتكز هذا الحزب على الدستور الجنوب إفريقي لإعلان مطالبه بطرق سلمية، وتحديدا المادة 235 التي تسمح للشعوب المتميزة ثقافيا ولغويا بإنشاء دولة مستقلة، وهو ما دفع زعيمه جاك ميلر إلى وصف جنوب إفريقيا بـ«الدولة الاستعمارية». لذلك يطالب هذا الحزب بتنظيم استفتاء لتقرير المصير، وهو ما يرفضه الحزب الحاكم في بريتوريا، بل رفض (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) مجرد نقل سلطات معينة إلى حكومة المقاطعة، مثل مجالات الشرطة والنقل العام.
شعب منطقة كيب الغربية، الغني بموارده، يعاني أزمة اقتصادية واجتماعية مسّت كل جوانب الحياة وشملت جميع القطاعات، رغم القوة الاقتصادية لهذه المحافظة التي لا تتحكم حتى في ضرائبها، ما أدى إلى بلوغ معدل البطالة بها ما يزيد عن 25 بالمائة، وتفشت الجريمة بها بشكل كبير، حيث يسجل أعلى معدل جرائم القتل في العالم، كما انهارت البنية التحتية والخدماتية، بل وصل الأمر إلى انقطاع التيار الكهربائي يوميا، ما أدى إلى خنق النمو الاقتصادي.
ورغم هذه المعاناة يستمر نظام دولة جنوب إفريقيا في فرض الحصار على أحلام هذا الشعب، متحججا بكون دستوره ينص على تقرير المصير في إطار سيادة الدولة! في وقت يتبجح مسؤولوه بالعديد من العنتريات السياسوية والشعارات البلهاء الفارغة حيث ينصبون أنفسهم حماة للعديد من الأوهام التي تجعلهم يتدخلون في سيادة الدول.
وبعيدا عن البعد الأنثربولوجي والسوسيولوجي، يجب أن نستحضر كذلك أن الدينامية الإيجابية للعلاقات الاقتصادية والسياسية بين المغرب والدول الإفريقية، خاصة الواقعة غرب القارة، وطبيعة شراكاته الإستراتيجية المتعددة وموقعه الجغرافي واستقراره السياسي، تزعج مجتمع رجال الأعمال في جنوب إفريقيا، على اعتبار أنهم يتماهون مع كون دولتهم تشكل قطب الرحى الإفريقي، وأنها قوة مهيمنة على مجالها الجغرافي، كما تعتبر محيطها القاري مجال نفوذها الحيوي، بحيث تشكل القوة الاقتصادية الأولى في إفريقيا، وبالتالي فهي تتوجس من القوة الاقتصادية المتنامية للمغرب. ولعل خير مثال على ذلك أن شركة جنوب إفريقيا للخدمات المالية Rand Merchant Bank نشرت طبعتها التاسعة من تقريرها “أين تستثمر في إفريقيا 2020″ في 18 شتنبر 2019، الذي يهدف إلى رصد الأسواق الإفريقية التي تتوفر بها أفضل الفرص الاستثمارية، وقد أظهر أن المغرب يحتل المرتبة الثانية في 2019 بعد مصر التي تحتل المرتبة الأولى في التصنيف، ما أدى إلى ردود فعل واسعة من طرف وسائل الإعلام الجنوب إفريقي.
إن المغرب وجنوب إفريقيا دولتان محوريتان في القارة الإفريقية، ويشكلان قطبين مهمين للاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية، وقد وصل حجم التبادل التجاري الإجمالي بينهما إلى 634 مليون دولار عام 2022؛ لذا يجب علينا القيام بمقاربة إستراتيجية جديدة، تنهل من مدرسة الواقعية السياسية، ونبادر بفتح قنوات تواصل جديدة تستند إلى الجرأة في طرح الأفكار والحلول المبدعة، وتخطط لمجموعة من الاحتمالات والسيناريوهات، وتتعامل مع المستقبلات وليس مع المستقبل.
نعم إننا نلاحظ أنه حاليا ليست هناك من بوادر لهدنة دبلوماسية مع النظام الحاكم في بريتوريا استنادا إلى مجموعة من المعطيات، ولا تقارب يلوح في الأفق، حيث إن مندوب جنوب إفريقيا لدى الأمم المتحدة في جنيف جدد دعم بلاده لـ”حق شعوب الأراضي الاستعمارية السابقة في تقرير المصير والاستقلال”. كما أن رئيس جنوب إفريقيا “سيريل رامافوزا” أكد دعم حكومته “الحازم” لجمهورية الوهم، خلال زيارة أجراها “ابن بطوش” مؤخرا إلى بريتوريا، مرددا أكثر من مرة كلمات نعتبرها مفاتيح لدراسة الاتجاه السلوكي لدى صانع القرار الجنوب إفريقي، وجواز سفر تواصلي يؤدي بنا إلى اكتشاف طبيعة شخصيته (النضال، تقرير المصير، التعبير بصوت عال، نحن الجنوب إفريقيون: واضحون، حازمون…).
إنه ورغم كل ما ذكرناه، ورغم هذه الأسطوانة المشروخة التي بات يرددها النظام الجنوب إفريقي بشكل هستيري، ورغم كل هذا الحقد والتآمر على الوحدة الوطنية المغربية، نسجل أن الدبلوماسية المغربية ربحت جولات مهمة في مواجهتها دولة جنوب إفريقيا. إن الكل يتذكر الخيبة السياسية لنظام هذا البلد سنة 2017 عندما كان الاتحاد الإفريقي يناقش عودة المغرب، إذ حصلت الرباط على 42 صوتا، بينما جنوب إفريقيا والنظام الجزائري لم يحصلا إلا على 12 صوتا رغم حملتهما الشرسة المسنودة بمال البترول الجزائري.
كما يجب أن نستحضر الانتصارات التي سجلتها الدبلوماسية المغربية مؤخرا، إذ فشل نظام جنوب إفريقيا خلال قمة البريكس الأخيرة في الإساءة إلى الوحدة الترابية للمملكة المغربية رغم أنها انعقدت بأراضيه، وفشلت بريتوريا والجزائر في تمرير توصية ضد الوحدة الترابية للمملكة في البيان الختامي لقمة دول عدم الانحياز التي انعقدت في يناير 2024 بكامبلا، بينما فاز المغرب برئاسة مجلس حقوق الإنسان بجنيف بفارق كبير في الأصوات على جنوب إفريقيا.
ورغم ذلك، تذكرنا البراغماتية دائما ألا شيء مستحيل في ميدان السياسة والدبلوماسية، فقط يلزمنا النفس الطويل والحلول الملهمة التي تمتح من إحدى أفكار مانديلا: “لصنع السلام مع عدو يجب على المرء أن يعمل مع هذا العدو، ويصبح هذا العدو شريكه”.